Social Icons

الـحــرية ثــمــنــها غــالـي




   لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم إلا وتعرض قصة تاريخية ، تتصارع فيها القوى ، وتتنافس الطاقات في تيار الحياة ، وتموج بالناس ، ثم تركز فيها على الاعتبار منها ، وهل يعتبر منها إلا  أولو الأبصار ؟
   فرب قوم هيئوا من سبل الحياة أكملها ، وبنو الترسنات الضخمة من العدة والعتاد ، ( وقالوا من أشد منا قوة ) ، ورب قوم قال حاكمهم لهم : ( ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ، ورب قوم عتوا : ( وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) تلك أمم نسيت قدرة الله تعالى في خلقه ، وتناست أن الله نصير المظلوم ولو بعد حين : ( وعزتي وجلالي لانصرنك ولو بعد حين ).
   لقد كادت الحياة تأسن وتتعفن لولا دفع الناس بعضهم ببعض : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ، وهذه سنة الله في خلقه من اجل دفع الظالم وابتلاء المؤمن ، وإظهار الحق للعالمين .
   كان رسول الله صلى اله عليه وسلم ، يعلم ما أشاعوا عنه وعن أصحابه من الضعف والوهن ، فأوصى أصحابه ألا يرى القوم فيهم ضعفاً ، وأمرهم أن يكشفوا عن المناكب ويسعوا في الطواف ، ليرى المشركون جلَدهم وقوتهم ، ودخل صلى الله عليه وسلم المسجد مضطبعاً بردائه ، والمسلمون معه مضطبعون بأرديتهم ، فسار حتى استلم الحجر الأسود وقال : ( رحم الله أمراً أراهم اليوم من نفسه قوة ) ، ولذا كان يحث أصحابه على القوة وترك الضعف والهوان ، فقال : ( المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) ، ولما اسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون خلفه في صفين على أحدهما حمزة وعلى الآخر عمر، ولهما كديد-غبار الطريق الذي أثارته إقدامهم عند المشي- كأنه كديد الطحين، فدخلوا المسجد الحرام وقريش تنظر إليهم وتعلوها كآبة، ولا يجرؤ سليط منها ولا حكيم أن يقترب من صفين فيهما هذان ، وصلى المسلمون حول الكعبة أمام أعين قريش .
    ولكن بسبب توفر آلة البطش الهائلة في هذا العصر المتطور  ، والتي تقهر الشعوب البسيطة التي تسعى إلى نيل الحرية ، والعيش بكرامة ، التي تم تجريدها من وسائل الدفاع عن النفس ، عندها تولى الظالمون قيادتها فعاثوا في الأرض فساداً وإجراماً ، وطمسوا الحق ، وزوروا الجرائم التي يرتكبوها ضد شعوبهم ، ومنعوا الناس من الوصول إلى معرفتها .
هل يتوقع أولائك الطغاة الفراعنة أن يحجبوا نور الشمس في عصر اللحظة ، والنقل المباشر لكل شيء ، لقد كان هدفهم قتل الحقيقة قبل قتلهم للأطفال والشيوخ ، وانتهاك الأعراض ، وقتل الجرحى ، وإحراق الجثث ودفنها في مقابر جماعية حتى لا يتسنى للناس معرفة فظاعة ما يرتكبونه .
إننا لا نعرف مظلوماً تواطأ الناس على هضمه ، وزهدوا في إنصافه كالحقيقة !! وعدم إعطائه حقه ، ما أقل عارفيها ، وما أقل أولئك العارفين من يقدَّرها ويُغالي بها ويعيش لها !!
إنَّ الأوهام هي التي تمرح جنبات الأرض ، وتغدوا وتروح بين الألوف المؤلفة من الناس .
لو ذهبتَ تبحث عن الحق في أغلب ما ترى وتسمع لأعياك طِلاَبه ، هناك ألوف الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية والمواقع الالكترونية تموج بها الدنيا صباحاً ومساءً ، ولو دققت النظر فيما ينطقها ما وجدت إلاّ حقاً قليلاً يكتنفه باطل كثيف ، ومن يرفع صوت الحق يحارب بكل الوسائل الحديثة والمتطورة . في ميدان السياسة كم من هوىً جعله الجَوْر عدلاً ، وقوَّة أحالت الخير شرّاً .
إذن لا بد من الوعي الحقيقي ، والسعي وراء الحقيقة مهما كلف الثمن ، فلا يقرنكم( خداع النظر ) في تقديره للحقائق المحيطة به ، وان التصور الغلط للأشياء ينقل المرء من موقف إلى موقف ، وألاَّ يحسن السلوك بإزاء أيِّ واجب يناط به أو أزمة يقف أمامها ، وان شراء الذمم اعتقد انه لا يستمر طويلاً .
وإذا خُدِع المرء أبداً عن الحقيقة ، فكيف يُوفّق إلى حل صحيح لمشكلات الحياة التي تلاقيه ؟! 
قد يجد المرء نفسه أمام سلسلة من الفروض المقترحة للخروج من أزمة طارئة ، وقد يُقَلِّب النظر فيها فيجد أنَّ أحلاها مرّ ، وقد يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار ، وقد يدور حول نفسه لا يرى مخلصاً ، وقد يرى المخلص فادح التضحية .
   والأمثل أن يختار الإنسان أفضل الطرق ، وأقرب الحلول ، ولا يبالي ما يحدث بعد ذلك ، وأكثر العوامل تضعف الإنسان عندما ينهزم من داخل نفسه قبل أن تهزمه وقائع الحياة .
   أعرف كثيراً من الناس لا يُعوزهم الرأي الصائب ، فهم من الفطنة ما يكشف أمامهم خوافي الأمور ، وإنما لا يستفيدون شيئاً من هذه الفطنة لأنهم محرومون من قوة الإقدام فيبقون في مكانهم محسورين بين مشاعر الحيرة والارتباك .
إن مرحلة المشروة في أمر ما لا يجوز أن يستمر أبداً ، بل هي حلقة تسلِّم  إلى ما بعدها من عمل واجب ، فإذا تقرر العمل ، فلنمضِ في إتمامه قُدُماً ، ولنقهر علل القعود والخوف والجبن ، وتوجيه الخارج ، فأهل مكة أدرى بشعابها .
وقد قال احد العلماء : أن الرجالات الضخمة لا تُعرَف إلا في ميدان الجرأة ، وإن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلاماً لذيذة في نفوس أصحابها ، وما تتحوّل حقائق حيّة إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم ، ووصلوها بما في الدنيا من حسٍّ وحركة .
وكما أنّ التردُّد خدش في الرجولة فهو تُهمة للإيمان ، وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن القتال بعدما أرتأت كثرة الصحابة المصير إليه .
فلندرس مواقفنا في الحياة بذكاء ، ولنرسم مناهجنا للمستقبل على بصيرة ثم لنرمِ بصدورنا إلى الأمام ، لا تثنينا عقبة ، ولا يلوينا توجسُّ ، ولنثق بأن الله يحب منا هذا الإقدام ، لأنه يكره الجبناء ، ويكفل المتوكلين .
لا يظن الإنسان أنه يستطيع أن يستنشق الحرية ، ويعيشها واقع ملموس في حياته ، بدون تضحيات ، إن التضحيات ودماء الشهداء الطاهرة الزكية ، هي الطريق التي يمهد جسوره إلى رياض الحرية والكرامة والعزة .
فالنصر يعقبه حرية ، والحرية ثمنها غالي .

0 التعليقات: