جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذه الأمة ، ورأى الأفراد والهيئات البشرية كخامات لم يحظ بصانع حاذق ، ينتفع بها في هيكل الحضارة ، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة.
رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع ، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه ، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ، ويجرح به أولاده وإخوانه .
في كل ناحية من نواحي هذه الحياة الفاسدة تسترعي اهتمام المصلح وتشغل باله .
ولذا حرص الإسلام من أول يوم على رد النفس البشرية إلى فطرتها ، وفق منهج دقيق متناسق يحفظ للروح والعقل والبدن حقوقهم من غير تفريط ولا إفراط .
فإن الفضيلة كما يقول الإسلام تحيى إذا جاهد الإنسان لبسط سلطانها على الأرض ، وتموت إذا خذلها وتقاعس عن نصرتها .
ولهذا قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر ، وقد ضرب ابنه مصرياً ، وافتخر بآبائه قائلا : خذها من ابن الأكرمين ، فاقتص منه عمر ، وقال : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ، فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد ، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً ، بل كانوا كسحابة انتظمت البلاد وعمت العباد ، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر ، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .
وهذا ما امتاز به أصحاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام بأنهم كانوا جامعين بين الديانة والأخلاق والقوة والسياسة ، وكانت تتمثل فيهم الإنسانية بجميع نواحيها وشعبها ومحاسنها المتفرقة في قادة العالم ، وكان يمكن لهم بفضل تربيتهم الخلقية والروحية السامية واعتدالهم الغريب الذي قلما اتفق للإنسان ، وجمعهم بين مصالح الروح والبدن ، وعقلهم الواسع أن يسيروا بالأمم الإنسانية إلى غايتها المثلى الروحية والخلقية ولمادية .
في اعتقادي أن الدعوة الإسلامية في هذا الزمن تشكو من فقر في القيادة والتنظيم ، ولا أكون مبالغاً إذا قلت أن عناية الحركة الإسلامية في تهيئة دعاة موجهين وخطباء مرشحين يفوق عنايتها في تكوين قادة منظمين ، حتى هذه النسبة الضئيلة في مجالات التكوين التنظيمي فغالباً ما تسوقها الصدف ، وقلما يأتي بها القصد والتصميم
وحتى المراكز القيادية في حياة الدعوة فقد بات لا يرشح لها إلا أصحاب الكفائأت ( العلمية والشرعية ) دونما القدرات التنظيمية ذات الكفائأت القيادية والإدارية ، فلا يكاد يبرع أخ في الخطابة أو ينال آخر مؤهلاً شرعياً حتى يرى نفسه لها أهلاً ، وهذا ما كان يؤدي في غالب الأحيان إلى إخفاقه في كثير من المهمات ، وبالتالي إلى خسارة الأخ نفسه بسبب ردود الفعل النفسية التي تصيبه منجراء فشله المتلاحق .
فمركز القيادة مركز الدائب والعمل المتواصل والجهاد المستمر .
ولذا كان من أهم موضوعات التنظيم ما يتعلق بالقيادة وخصائصها وصفاتها .
ولمعرفة القائد لامته تماماً يلزم أن يكون ملماً إلماماً جدّياً بشؤونها الفكرية والتوجيهية والتنظيمية ، مواكباً لنشاطها ، مطلعاً على أعمالها وتصرفاتها ، وما يدور في محيطها .
وضمان نجاح القيادة إنما يكون في تلاحمها مع أفرادها وعدم انفصالها عن الموكب المتحرك أو انعزالها في صومعة ، بل أن المسؤولية القيادية لتتطلب من صاحبها الاتصال الدائم بالإفراد والتعرف على آرائهم ومشكلاتهم .
وقيام القائد بملاحظة الأفراد وتعرفه عليهم جيداً ، وإطلاعه على أحوالهم وأوضاعهم الخاصة والعامة ، ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم ، والعمل على حل مشكلاتهم ، كل هذا مما يساعده على ضبطهم وكسب ثقتهم ، وبالتالي على حسن الاستفادة من طاقاتهم .
والأفراد ينظرون دائماً ويتطلعون إلى قادتهم كأمثلة حسنة يقتدون بها ويحذون حذوها ، فسلوك القائد ونشاطه وحيويته وأخلاقه وأقواله وأعماله ذات أثر فعلي على الجماعة بأكملها .
والقوة والإرادة ركن من أركان الشخصية القيادية بها تذلل الصعاب ، وبها تحل المشكلات ، وبها نجتاز العقبات .
إن الإسلام في هذا الزمن بحاجة إلى قيادة يحسنون عرض الأفكار الإسلامية ومبادئه ، ويحببون الإسلام فلا ينفرون منه ، ويوضحون أفكاره فلا يعقدونها ، فكم من أدعياء شوهوا الإسلام بسوء دعوتهم ، وأساؤا إليه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
وأود أن أشير هنا إلى أن المحن والشدائد يجب أن تبعث في النفوس معاني الإصرار على الحق والثبات دونه ، كما ينبغي أن تدفع إلى مراجعة الأخطاء، وتعبئة القوى على ضوء الاستفادة من التجارب والأحداث
ان درب الدعاة في هذا العصر درب محفوف بالإغواء والإغراء ، لقد هدمت جاهلية القرن العشرين وما تلته في الواحد والعشرين كل معنى من معاني الفضيلة والخير والكرامة ، وأسفرت عن وجه كالح شاحب ترتسم فيه وتتوافر أساليب الغواية والفتنة ، وأزكمت مادية هذا العصر الأنوف حتى أصبح الإنسان لا يفكر إلا بها ، ولا يعيش إلا لها ، ولا يحكم على الأشياء إلا من خلالها ، أعمت بصره وبصيرته ، وأماتت حسه وشعوره .
وقد يكون من أهم ما تجب العناية به ووضع المناهج له ، تحويل المفاهيم والأفكار الإسلامية إلى سلوك وخلق أي إلى نفسية إسلامية ،وهذا ما يفرض إحكام الربط بين العقلية والنفسية أي بين التفكير والتطبيق ، ولقد ندد الإسلام بالانفصال جزئي الشخصية عن بعضها البعض فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) .
وفي كل الأحوال تحتاج الأمور المهمة إلى إِشراك مستشارين وأشخاص هم على جانب كبير من حصافة الرأي والتفكير ، وعلى القائد المسئول أن يكون لديه الشجاعة الكافية لاستقبال جميع الآراء التي تساعد على نضوج قراره حول المشروع الذي يريد صنعه ، فكيف إذا كان المشروع صناعة الإنسان ، وتطويره ، والارتقاء به إلى أعلى الدرجات .
فالقيادة لا تعني فرض الإرادة على العبيد المجهولين بل تعني الشورى والقيادة معا ، وتنمية تبادل الرأي والإخلاص للعمل .
كل قائد يحيط نفسه بأركان التي تقدم له كل شيء من عيون راصدة ، أيادي حارسة ، آذان ناصته ، شفائف متكلمة ، أدمغة مفكرة ... الخ ، ولكن مهما كانت صفة توظيفهم فهم ليسو سوى أعضاء ذات فعاليات منصبة لمصلحة شخص واحد الذي هو القائد ، وقدرة الله فوق كل كبير متعال .