الوحدة المعمدة بالدم كلمات طالما سمعناها من الرئيس علي صالح وهو يتفاخر بأنها إحدى منجزاته التي حققها في ظل حكومة الوحدة الرشيد وقيادته العبقرية من وجهة نظره .
لم يتساءل أصحابه ومَن حوله وهو يصفقون له بقوة ، لماذا عمد القائد الرمز ذلك الإنجاز بالدم ، أهان سفك دم الشريك ، بينما دم الأخ والقريب أصبح من السبع الموبقات في هذه الأيام ، أما الإعلام الرسمي فقد جعلها (الوحدة المعمدة بالدم ) شعاراً لواجهات برامجه في كثير من المناسبات الرسمية ، وعلى وسائله المختلفة ، ولا ننسى علم الوحدة وهو يرفع من على تراب عدن الحرة ، والجميع حوله يحفونه بالابتسامات الجميلة ، وبأمل المستقبل المشرق ، إلا أن تلك الابتسامات غُيبت عندما طمسها الإعلام الرسمي بعد الحرب الهمجية في صيف 94م ، عندما استبيحت البلاد ، وانتهكت فيها الحقوق وسلبت فيها الحريات .
لقد حرص الإعلام الرسمي بكل وسائله على تزوير وتشويه الحقائق ، ولم يكتفي بذلك بل عمد على مسخ وتضليل المجتمع بأسره ، وأصبح أسيراً لذلك الفكر النازي ، الذي لا يعكس بأي حال من الأحوال صوت الناس من حوله ، كما يفعل هذه الأيام مع شباب الثورة في جميع محافظات اليمن .
لقد كرس الإعلام الرسمي بكل وسائله صورة ذلك القائد الرمز وهو يرفع العلم الوحدوي ، وقد غيب الشركاء من حوله ، حتى تناسى الكثير من الناس أن الوحدة هي اتفاق بين شطرين أصبحت بموجب ذلك الاتفاق دولة واحدة ، لا من صنع شخص واحد ، إلا أن يكون عن طريق الإكراه أو القوة . لقد اخُتزلت الوحدة بشخص الرئيس القائد ، كما اختزلت كثير من الدول العربية مثل ليبيا بصورة القائد الفاتح ، ولا اعتقد انه خداع للنظر بل حقيقة بكل المقاييس .
فهل شباب الثورة عندما ينتصرون على القائد الرمز يتركون صورته ترفرف عالياً على العلم الوحدوي ؟ أم أنهم يجعلون ذلك العلم يسلك الاتجاه الصحيح في طريق تحقيق الوحدة الحقيقية التي كان يحلم بها كل أبناء اليمن ؟ هل سيتم إسقاط صورة القائد الرمز كما اَسقَط هو شُركائه أثناء حكمه ؟
وصدق من قال : من حفر حفرة لأخيه وقع فيها ، وبنفس ألكاس الذي سقيت فيه غيرك ، ستُسقى منه ، والجزاء من جنس العمل .
ويأتي المشهد الفاصل الذي صوره القرآن في قوله تعالى : ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) عندها يتساءل الكثير ، هل سيظل علم الوحدة يرفرف بدون صانعيه ؟ هل ستظل الوحدة المعمدة بالدم المنتهية الصلاحية سارية المفعول بعد رحيل موئسها الأوحد كما يحلو للبعض تسميته ؟ أم أنها ستنتهي بانتهاء صاحبها ؟
ويأتي الدور على شباب الثورة ويصبحون أمام الواقع ، والامتحان الحقيقي ، فهل سيعيدون صياغة الوحدة من جديد ؟ أم سيمارسون نفس أسلوب القائد الرمز ، في الإقصاء وعدم الاعتراف بان القضية الجنوبية قضية سياسية وليست حقوقية كما يعتقد الكثير ، أم يستمر العلم الوحدوي يرفرف بشخصيات جديدة ، ونتمنى أن لا يعمدوه بالدم كذلك .
ان القضية الجنوبية لا يلغيها شعار أبنائها وهم يرددون شعار الشعب يريد إسقاط النظام ، لان هذا الشعار كان مرفوعا منذ زمن طويل ، وقد قدم الجنوبيون العشرات من الشهداء ، والآلف الجرحى من أجل الوصول إلى هذه اللحظة التاريخية ، ولم يكن الشهر أو الشهرين هو عمر النضال السلمي للثورة ، وإذا اعتقد شباب الثورة أن القضية الجنوبية قد سقطت بترديد ذلك الشعار ، عندها نصبح كما قال المثل الشعبي ديمة قلبنا بابها .
ان شباب الثورة في المحافظات الشمالية إن لم يتداركوا خطورة الموقف بخصوص القضية الجنوبية ، والاعتراف بأنها قضية سياسة عادلة ، وقضية اليمن المحورية ، وأهم قضية على الخارطة السياسية في اليمن بعد الثورة ، لا أقول أنهم سيقعون بشباك الماضي الأسود ، بل أخشى عليهم من تلك الشباك .
وكما قال الدكتور عيدروس النقيب في أحد مقالاته ، ان القضية الجنوبية هي قضية دولة دُمرت وأرض نُهبت ، وحقوق صُودرت ، ومشاركة وطنية وئدت ، وتاريخ يزور ، وهوية تمسخ ، ودماء تسفك ، وأرواح تزهق .
القضية الجنوبية هي قضية حية لأنها قضية تاريخ وحقوق ، وهوية وانتماء وإرادة ، وهي على كل حال جزء جوهري من القضية اليمنية الكبرى ومدخل لها .
، ولا يخشى مناصروها تهمة الانفصال التي دائما تقترن بكل من يتحدث عن القضية الجنوبية ، والتي ظلت السلطة ومخابراتها ، وأجهزة إعلامها ترددها ضد الناشطين السياسيين السلميين من أنصار القضية الجنوبية .
ويقول أحد الكتاب في مطلع حديثه عن القضية الجنوبية ، ان الاعتقاد الخاطئ بأن القضية الجنوبية هي نتاج طبيعية لحرب 1994م ، لا يساعد على حلها بإزالة آثار 94م ، هذه الحرب التي تعد بحد ذاتها نتيجة لفشل الوحدة ، أو سياسة السيطرة على الوحدة من قبل القائد الرمز .
ان الظروف التي أحاطت بسرعة إعلان قيام الوحدة دون سابق إعداد وتحضير مكتمل لها ، وما رافق مرجعيتها السياسية والقانونية من أخطاء وتشوهات ونوقض كبيرة ، وما أعقبها من سياسات خاطئة أوصلت الوحدة إلى طريق مسدود ، وإلى ما نحن عليه اليوم ، من الظلم والقهر والاضطهاد .
جاء حرب 94م لاستبعاد الجنوب ليس من شراكة الدولة فحسب بل جرى استبعاده من شراكة السلطة ليخرج الجنوب بالكامل من المعادلة السياسية ، وظهور إفرازاته في الوحدة المعمدة بالدم وعودة الفرع إلى الأصل وغيرها من الأقاويل .
ان حرب 94م لم تكن تستهدف الحزب الاشتراكي وإقصائه من السلطة وإخراجه من مسرح الحياة السياسية فحسب ، بل استهدفت الجنوب الأرض والثروة ، وتهميش وتجهيل وإقصاء الإنسان .
ان قيام دولة الوحدة الحديثة تمثل هدفا رئيساً لجميع القوى السياسية والفئات الاجتماعية حاملة المشروع النهضوي الحديث ، فهل وصل أبناء اليمن إلى الوعي الحقيقي لبناء دولة الشراكة والمواطنة المتساوية ، لا دولة الزعيم القائد الرمز ؟
وتبقى القضية الجنوبية رمزا للنضال السلمي في العامل العربي اجمع .